يحيي المسلمون في أنحاء العالم ، غدا الأحد ، ذكرى المولد النبوي الشريف . وفي هذا اليوم يحتفل المسلمون لاستبشارهم وفرحتهم بذكرى يوم ميلاد سيد الخلق محمد (صلى الله عليه وسلم) .
وكان المجلس الاسلامي قد اصدر في الماضي بيان في هذه الذكرى حمل عنوان “كلمة هادئة حول مشروعية إحياء يوم المولد النّبوي الشّريف”
الحمد لله والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمّد رسول الله ، وبعد :
كلّما هلّ علينا هلال شهر ربيع الأول كلّما هلّت بالمقابل التساؤلات والاستفسارات حول مشروعية احياء ذكرى المولد والتّي ينتج عنها في كثير من الأحيان مشادات من كلا الطّرفين المجيز والمانع على حد سواء قد تصل لحد تبديع وتضليل كلّ فريق للآخر ، رغم أنّ هذه المسألة ليست وليدة عصرها بل بحثها علماؤنا الأعلام منذ مئات الأعوام ، فكم كنت أتأمل على الفريقين بمراجعة المسألة من مظانّها الفقهية والتزام أدب الخلاف والحوار في المسألة عملاً بقاعدة لا انكار في محل الاختلاف .
ولتجلية المسألة نقول : ذهب كثير من أهل العلم إلى القول باستحباب إحياء يوم المولد الشّريف بالذكر والمدائح والشكر والابتهالات، مع التأكيد على حرمة ممارسة البدع وتتبع الخرافات في مثل هذا اليوم المبارك الشريف الذي تتجلى فيه النّفحات .
وممّن قال بجوازه واستحبابه : العلامة الحافظ العراقي حيث ألّف كتاباً أسماه : ” “المورد الهني في المولد السني ” ، والامام الحافظ السّيوطي بوّب في كتابه الحاوي باباً أسماه : ” “حسن المقصد في عمل المولد” والامام العلامة علي القاري حيث ألّف كتاباً أسماه : ” المورد الرّوي ” ، والامام العلامة ابن رجب الحنبلي حيث حثّ على احياء يوم المولد واغتنام نفحاته بل واستحب صيام هذا اليوم في كتابه : ” لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ” ، والإمام الحافظ شمس الدين ابن الجزري: إمام القراء وصاحب التصانيف التي منها: “النشر في القراءات العشر”، وسمى كتابه: “عرف التعريف بالمولد الشريف “والإمام الحافظ ابن الجوزي والامام أبو شامة (شيخ الحافظ النووي) حيث حثّ على احياء يوم المولد في كتابه “الباعث على إنكار البدع والحوادث” واعتبر يوم المولد من أحسن ما أحدثه النّاس على اعتبار أنّ البدعة تقسم لقسمين عند جمهور الفقهاء : بدعة حسنة وبدعة سيئة أو إن شئت فقل سنة حسنة وسنة سيئة دفعاً للشبه والايهام كما استحسن ابن رجب ، والامام الشهاب القسطلاني (شارح البخاري): حيث قال في كتابه: “المواهب اللدنية” والإمام الحافظ السخاوي، والإمام الحافظ وجيه الدين بن علي بن الديبع الشيباني الزبيدي.. وغيرهم الكثير ممن لا يتسع المجال لاستقصائهم .
هذا ولا ننكر أنّ هنالك طائفة من أهل العلم كرهت ذلك ولكن لم يبدّع ولم يفسق من يفعله ويرى جوازه كما نراه اليوم من بعض اخواننا هدينا وإيّاهم للحق والرّشاد ، أفلا يسعنا ما وسع أسلافنا من العلماء !! وننشغل في قضايا كبرى ملحة أخرى تتعلق بمصير ومستقبل الأمة بحاجة إلى بحث ومعالجة وحوار !!
الأدلة الشّرعية على جواز احياء يوم المولد :
هذا ومن باب الدقة العلمية والأمانة الشرعية ينبغي أن يعلم القاريء أنّه لم يأت دليل صريح في الكتاب أو السنة على استحباب احياء ذكرى مولده صلّى الله عليه وسلّم ، وإنّما هي اجتهادات يستأنس به من إشارات بعض النّصوص ، كي لا يظنّ المؤيد لفعله أنّه من الأمور المتفق عليها فينكر على من لا يقول به وبالمقابل كي لا يظنّ من لا يؤيد فعله أنّه من القضايا المتفق على منعها فينكر على من يقول به .
جاء في بيان صادر عن دار الإفتاء الأردنية :
” إنّ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف الذي هو اجتماع الناس، وقراءة ما تيسر من القرآن، ورواية سيرة النبي صلى الله عليه وسلّم، وإنشاد شيء من المدائح النبوية، ثم إكرام الحاضرين بالطعام أو الشراب من غير زيادة على ذلك سُنَّة حسنة؛ لأن فيه تعظيما وتوقيرا لقدر النبي صلى الله عليه وسلّم، وإظهارا للفرح والاستبشار بمولده الشريف، وهو من السُّنن التي أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ) رواه مسلم.
وقد دل على هذا الحكم أدلة كثيرة استند إليها العلماء في مشروعية الاحتفال بهذا اليوم العظيم، منها :
أولا: قوله تعالى: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) إبراهيم/5 أي: بنعم الله عليهم، كما فسره ابن عباس ومجاهد وقتادة. انظر “تفسير القرطبي” (9/341) .
وولادة النبي صلى الله عليه وسلم هي النعمة العظمى والمنة الكبرى على العالم كله، لا يشك مسلم في ذلك، فالاحتفال بيوم المولد هو من باب الامتثال لأمر الله تعالى بتذكر نعمه وآلائه .
ثانيا: قوله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس/58 ) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (فضلُ الله): العلم، و(رحمتُه): محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء/107. انظر: “الدر المنثور” للسيوطي (7/667) .
والاحتفال بمولد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم مظهر من مظاهر الفرح المأمور به .
ثالثا: عن أبى قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الاثنين فقال: (ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ – أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ -) رواه مسلم.
فبيان النبي صلى الله عليه وسلم أن سبب صومه يوم الاثنين هو ولادته فيه دليل على أن يوم ولادته له مزية على بقية الأيام، والمسلم يحرص على زيادة الأجر والثواب في الأيام المباركة .
رابعا: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ وَجَدَهُمْ يَصُومُونَ يَوْمًا، يَعْنِي عَاشُورَاءَ، فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى، وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، فَصَامَ مُوسَى شُكْرًا لِلَّهِ، فَقَالَ: (أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ) فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. رواه البخاري .
وجه الدلالة: أن شكر الله تعالى في يوم على نعمة منّ بها، أو نقمة دفعها، مع تكرار ذلك في كل عام أمر جائز شرعا، ومن أعظم الآلاء والنعم نعمة ظهور النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم
ولا بد أن نذكِّرَ أنفسنا وإخوتنا المسلمين بضرورة التأسي بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وشمائله، فهو القدوة والقائد، من سار على نهجه نجا، ومن تنكَّب الطريق عن هديه هلك ” .( انظر : بيان في ذكرى المولد النبوي الشريف عام1433ه ، دار الإفتاء العام ، الأردن ، نقلاً عن موقع دار الإفتاء العام ) .
قال السيوطي رحمه الله تعالى : ” سئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل ابن حجر عن عمل المولد، فأجاب بما نصه
أصل عمل المولد بدعة ، لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرى في عملها المحاسن ، وتجنب ضدها : كان بدعة حسنة ؛ وإلا فلا ….
قال : وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت ، وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا : هو يوم أغرق الله فيه فرعون ، ونجى موسى ؛ فنحن نصومه شكرا لله تعالى ” . .
فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما مَنّ به في يوم معين ، من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة .
والشكر لله يحصل بأنواع العبادة ، كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة ؛ وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم ….. إلى أن قال : وأما ما يعمل فيه : فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم به الشكر لله تعالى ، من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة ، وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة .
وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك : فينبغي أن يقال: ما كان من ذلك مباحا بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم : لا بأس بإلحاقه به، وما كان حراما أو مكروها فيمنع، وكذا ما كان خلاف الأولى ” انتهى من الحاوي للفتاوي” (1/ 229 ) .
وقد أجاب القائلون بمشروعية واستحباب المولد على من عارضه بدعوى أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يُقم احتفالا لذكرى مولده ولا الصحابة من بعده ، بأنّ القاعدة الأصولية تقول: “لا يُحتجّ بالترك”، أي كونه لم يفعله لا يعني ذلك عدم الجواز طالما أنّ له أصلا في الدّين، فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم كما أخبرت السيدة عائشة ما زاد على إحدى عشرة ركعة في ليلة، ومع ذلك فقد صلّى عمر بن الخطاب رضي الله عنه التراويح عشرين ركعة وأقره على ذلك الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، بلا خلاف يعلم !! كما أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم لم يجمع القرآن الكريم بين دفتي مصحف واحد ولم ينقطه ولم يضع الحركات على حروف وغير ذلك من الأمور التي لم يفعلها النّبي صلّى الله عليه وسلّم وفعلها الصحابة من بعده على اعتبار أنّ لها أصلاً في الكتاب والسنة ….
والخلاصة: أَنَّ مَن احتفل بيوم مولده صلّى الله عليه وسلّم؛ فسرد سيرته العطرة وذكّر بمناقبه العلية، ولَم يُلبِسه بِشَيءٍ مُنافٍ للشَّرعِ من البدع المذمومة، كالاختلاط المحرم بين الرجال والنساء، والموسيقى والتمسح بالقبور والمقامات …. فلا حرج ، وقد قال بذلك حشد كبير من أهل العلم .
والأصل من الطرفين ( المؤيد وغير المؤيد) التزام أدب الاختلاف في المسألة ومراعاة الاجتهاد فيها ، فالأمة أحوج للتركيز على المتفق عليه وننصح أهل العلم بعدم الزّج بالعوام من النّاس للخوض في مسائل خلافية لا طائل من وراء الخوض فيها ، خصوصاً إذا كان الخلاف فيها قديماً ولم يحسم في زمن الصّفاء والنّقاء !! أفلا يسعنا ما وسع أسلافنا من العلماء !! وننشغل في قضايا كبرى ملحة أخرى تتعلق بمصير ومستقبل الأمة بحاجة إلى بحث ومعالجة وحوار !!
والله تعالى أعلم
المجلس الإسلامي للافتاء