بين أروقة المدارس (1) ..المخفي أعظم بقلم د. محمود علي جبارين
اعلم يا زميلي أن المناهج صنفان:
صنف جلي وواضح، ومكتوب، ومعلوم، ومشهود، وينفذ وفق خطط وأهداف ومراحل تنفيذ وتنسيق وتنظيم وتقييم. وهذا ما يخططه الطاقم والإدارة المدرسية والتعليمية.
يحتاج للمهارة والكفاءة وفنون التدريس وتحفيز للتعلم وتحضير للتعليم. هو سيرورة عمل ينتهجها المعلم بوسائل مختلفة حسب احتياجات الطلاب وقدراتهم، ووفق الحس النفسي والبيئة المجتمعية وتطورات العصر.
فهو المنهاج المدرسي الرسمي المتوافق عليه، والمصحوب بأوراق وحبر ووسائل وإمكانيات وأدوات ومعايير وتقييم وخطط وتقويم. هو فيصل الجودة ومؤشر التحصيل، وهو العناوين الواضحة والسيرورات الجلية. هو المنهج الرسمي الذي يقاس به النجاح وتتفاخر به الطواقم.
الصنف الثاني هو المنهاج الخفي، فهو لا شيء مما ذكر أعلاه. هو ما بين السطور والأضلاع، هو المؤثرات المكتسبة من اللغة المشتركة ومن الحياة داخل أروقة المدارس. هو الصامت العميق، هو نبع الاحتواء، ونبع النظرات، ونبع الكلمات، ونبع الحركات. هو كل ما يتأمله الطالب داخل هذا العالم الصغير، هو كل ما يدركه ويستنتجه دون تفسير أو كلمات، دون توضيح أو تمحيص.
هو ما يراه ولا يسأل عنه، هو ما يحسه ولا يفسره. هو خالٍ من الكلمات والعبارات والجمل. هو صنعةٌ نفسية، وأحداث مخفية، واستنتاجات حسية، وأفكار صامتة.
لقد عرفه علماء التربية بأنه “ما يتعلمه الطلبة من غير تخطيط”.
فهو تلك المعارف والقيم والأفكار والأنظمة والسلوكيات التي يتعلمها الطالب نتيجة الاحتكاك بالأقران والمدرسين والأنظمة والتعليمات وطرق التدريس المستخدمة للفهم الذاتي وتطوير المعرفة.
هو الحس الذي يختبئ وراء التقدير، وهو ذاته الذي يتستر من وراء التوبيخ. هو الشعور بالقيمة أو عدمها، هو الإحساس بالقبول، هو ما يراه الطالب أكثر مما يسمعه.
هو بالساحات والمداخل، هو الهواء والمناخ العام، هو العلاقة بينه وبين كل ذرة داخل أروقة المدرسة. هو صناعة اللوحة الكاملة في ذهن الطالب التي تعيش معه كل سنين حياته.
أيها الصّحبُ:
من مثلكم يعلم أن للكلام أثرًا مباشرًا وغير مباشر؟
من مثلكم يعرف أن تقبل مشاعر التلاميذ بكل ألوانها هو درس بحد ذاته؟
من مثلكم يدرك قيمة أن تقبل أفكار التلاميذ، ولو كانت بسيطة، أو فيها شيء من الخيال، ومحاولة تطويرها ووضعها في نطاق المعقول والقابل للتطبيق لتصبح أهدافًا لهذه الحياة؟
من مثلكم يدرك أن إزالة الأذى عن الطريق أو الساحة تعلم جيلًا كاملًا قيمة النظافة والمسؤولية؟
من مثلكم يدرك أن الإنسان والفرد أهم من المحتوى والمادة التعليمية؟
أيها الزملاء:
لا تنتظروا من تلميذ يرى أستاذه يدخن في باحات المدرسة أن يقتنع بالشعار الذي تلقنه إياه بأن التدخين مضر للصحة.
لا تنتظروا من طالبة ترى مدرستها تتبرج وتضع الخلخال بقدميها، وحلقة بالأنف، وسربًا طويلًا من أدوات زينة الأذن والشعر، أن تقتنع بالقيم الاجتماعية والدينية التي تعلمها الحشمة وعدم التبرج.
لا تنتظروا من الطالب الذي يرى أستاذه يصرخ في وجه فلان وعلان، لمجرد التوجه له بشكوى أو طلب، أن يتعامل برفعة وأخلاق في الشارع ومع أفراد مجتمعه.
أيها الصّحبُ:
يجب أن نركز على القيم والأخلاق بمفهومها الواسع.
يجب أن نركز على مفهوم الوعي الثقافي والسلوكي والصحي.
يجب أن نغرس القيم في نفوس الطلاب من خلال الاحتكاك والتعامل، لأنك قدوة لهذا التلميذ.
ليس فقط السلوك وطريقة التعامل، بل إن طريقة التدريس هي بمثابة منظومة فكرية يكتسبها الطالب. فإذا ما قام المعلم بطرح أسئلة ذكية تُفَتِّح الآفاق وتثير الأفكار، فإنه بذلك يعلم الطالب مهارات التفكير الناقد وحل المشكلات، ومهارة وضع البدائل وتصنيفها واتخاذ القرارات.
إن المدرس الجاد النشيط في عمله وتحضيره يتعلم منه الطلاب الجدية والمثابرة.
إن المدرس الذي يحترم نفسه يحترمه الطلاب.
إن المدرس الذي يتأنى في اتخاذ القرارات وإصدار الأحكام يتعلم منه طلابه الحكمة والتروي وعدم التهور.
أيها الأحبة:
إن تصرفاتنا وتوجهاتنا هي غرس في أطفالنا، تنمو وتترعرع في نفوسهم، لا نعلم إلى أي مسلك تتطور. فاحرصوا على غرس القيم.
وهذه القيم والمهارات لا تنتقل للطلاب بمجرد شرح المدرس لها، بل إن أثرها يكون أبلغ إذا تحلى بها ومارسها أمام طلابه كونه قدوة لهم.
فإن للمعلم أثرًا عميقًا في نفوس الطلاب وعالمهم. فهو يستعد نفسيًا لتلقي العلوم من معلمه، فكيف به أن يحجب نفسه عن تلقي العادات والقيم والحركات؟ لذلك هو الوعاء الذي يستقبل كل ما يصدر من علوم وقيم وعادات وتصرفات، ليبلور شخصيته ويصنع ذاته. فكن له قدوة حسنة وموضع أمان.